ترميم المشافي في سوريا: أولوية إنسانية لا تحتمل التأجيل
مقدمة
منذ بداية الأزمة السورية عام 2011، تكبد القطاع الصحي في البلاد خسائر جسيمة، طالت البنية التحتية والمرافق الطبية والكوادر العاملة فيها. تحوّلت العديد من المستشفيات إلى أطلال بعد أن تعرضت للقصف أو الإهمال، وتوقفت عن تقديم خدماتها للآلاف من المرضى الذين باتوا يبحثون عن العلاج في ظروف قاسية، وأحيانًا مستحيلة. في ظل هذه الأوضاع، يُعد ترميم المشافي وإعادة تأهيلها ليس مجرد مشروع خدمي، بل أولوية إنسانية عاجلة لا تحتمل التأجيل، لما له من تأثير مباشر على حياة ملايين السوريين.
مشافٍ مدمرة.. ومرضى دون علاج
تشير تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الطبية الدولية إلى أن أكثر من 50% من المرافق الصحية في سوريا إما خارجة عن الخدمة كلياً أو تعمل بقدرة جزئية فقط. وقد أدى ذلك إلى حرمان الملايين من الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية، خصوصاً في مناطق المخيمات أو المناطق المحاصرة التي تعاني من نزاعات مستمرة.
في الكثير من المناطق، يضطر المرضى لقطع مسافات طويلة للوصول إلى مستشفى يقدم الحد الأدنى من الخدمات الصحية. بعضهم لا ينجو في الطريق. النساء الحوامل، الأطفال، وكبار السن هم الأكثر تضرراً من هذا الوضع والظروف القاهرة. كما تفتقر العديد من المنشآت التي ما زالت تعمل إلى التجهيزات الأساسية اللازمة لعمل المشفى بالحد الأدنى، مثل غرف العمليات، أجهزة التصوير الشعاعي، وحدات العناية المركزة، وحتى الأدوية والمستهلكات الطبية اليومية.
البنية التحتية.. عائق أمام الكوادر الطبية
الكوادر الطبية السورية، رغم ما تواجهه من تحديات، ما زالت تبذل جهوداً خارقة في خدمة الأهالي. إلا أن غياب البنية التحتية الملائمة يُضعف من قدرتهم على العمل. كيف لطبيب أن يجري عملية جراحية دقيقة في غرفة لا تتوفر فيها الكهرباء المستقرة أو المياه المعقمة؟ كيف يمكن لممرضة أن تعتني بحديثي الولادة في قسم حضانة لا يحتوي على أجهزة تدفئة أو إنعاش؟ هذا الواقع لا يعكس فقط ضعف النظام الصحي، بل يكشف عن أزمة إنسانية حادة بأبعاد كارثية.
ترميم المشافي.. مسؤولية جماعية لاتتجزأ
لا يمكن حصر مسؤولية ترميم المشافي على جهة واحدة فقط، بل هو جهد يتطلب تنسيقاً وتعاوناً بين أطراف عديدة:
- الحكومة والمؤسسات المحلية: يقع على عاتقها تنظيم العمل وتحديد الأولويات وتوفير البيئة الآمنة للكوادر والمنظمات المنفذة.
- المنظمات الإنسانية: لها دور فاعل في تمويل وإدارة مشاريع الترميم، وقد قامت العديد من الجمعيات بالفعل بإعادة تأهيل عدد من المراكز الصحية في مناطق متعددة.
- المجتمع الدولي: عليه مسؤولية أخلاقية في دعم مشاريع الترميم، سواء من خلال المساهمة المالية أو الدعم التقني أو الضغط السياسي لتوفير الحماية للمرافق الصحية من الاستهداف.
الفوائد المباشرة للترميم
إعادة ترميم المشافي لا يقتصر على تحسين الخدمات الطبية فقط، بل ينعكس إيجابًا على المجتمع ككل:
- تقليل نسبة الوفيات: عندما يعود المستشفى إلى العمل، تقل نسبة الوفيات الناتجة عن التأخر في تلقي العلاج.
- دعم الاستقرار المجتمعي: وجود مشافٍ عاملة يخفف من معاناة الناس ويمنحهم شعور بالأمان والكرامة.
- تأمين فرص عمل: من خلال تشغيل الكوادر الطبية والفنية، وإدخال مشاريع إعادة الإعمار في السوق المحلية.
- الحد من الأمراض: عبر تحسين خدمات النظافة، التلقيح، الرعاية الأولية، ما يساهم في منع تفشي الأمراض والأوبئة.
الحاجة إلى خطط مستدامة
رغم أهمية الترميم الطارئ، إلا أن سوريا بحاجة إلى خطة صحية شاملة وطويلة الأمد. يجب ألا تقتصر الجهود على إصلاح الجدران والأجهزة، بل يجب إعادة بناء نظام صحي متكامل يراعي:
- تدريب الكوادر الطبية وتعويض النقص الكبير فيها.
- إدخال التكنولوجيا الطبية الحديثة.
- إنشاء نظم إدارة طبية فعالة ومراقبة الجودة.
- تعزيز الرعاية الأولية والطب الوقائي.
الختام: لا مجال للتأخير
في بلد يعيش فيه ملايين الأشخاص تحت خط الفقر، وتفتك به الأزمات السياسية والاقتصادية والإنسانية، لا يمكن القبول باستمرار انهيار القطاع الصحي. ترميم المشافي ليس ترفاً ولا خيار يقبل التأجيل والتراخي، بل ضرورة ملحّة جداً يجب أن توضع في مقدمة أولويات الجهات الداعمة والفاعلة في الشأن السوري.
كل دقيقة تأخير تعني ألماً مضاعفاً لمريض، وحياة تُفقد كان من الممكن إنقاذها. إنقاذ ما تبقى من المشافي هو إنقاذ لحياة السوريين، وهو رسالة إنسانية يجب أن نتحرك لتحقيقها اليوم، لا غدًا.